المادة    
يقول رحمه الله: (ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة).
إذاً: مصادر المعرفة الصحيحة ثلاثة:
أولاً: الوحي الذي هو الكتاب والسنة.
ثانياً: العقل الصحيح السليم.
ثالثاً: الفطرة السليمة التي لو تركت لعرفت الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء، فهل ترون فيها من جدعاء؟ )، لا تولد بهيمة جدعاء في الدنيا كلها، فمن الذي يضع عليها العلامة؟ من الذي يشق الأذن ويجعل علامة أن هذه لفلان أو من قبيلة فلان، أو أنها تشعر لتذبح لله تعالى هدياً، أو تذبح لغير الله مثلاً؟ البشر، أما هي فتولد جمعاء سليمة مكتملة الخلقة.
وبالتالي لما حرموا المصدر الأول حرموا ما عداه، لما حرموا الاهتداء بالكتاب والسنة -وهما مصدرا الهدى الكامل- حرموا بعد ذلك من العقل الصحيح، وطمسوا وشوهوا فطرهم، فمن أخذ بالكتاب والسنة وفهمهما أعطاه الله تعالى مع النقل: العقل، وحفظ له الفطرة، ومن أضاع الكتاب والسنة فإنه يضيع ما عداهم.
وفي واقعنا المعاصر قد يقال: لا نأخذ شيئاً -مثلاً- من صفات الله من كلام هؤلاء الفلاسفة وأمثالهم، مع أن هذا أيضاً موجود إلى حد ما، لكن نقول: انظروا إلى ما يسمونه علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم التشريع -القانون- وعلم السياسة ومناهج التاريخ إلى غير ذلك، إذا اهتدى أصحابها بالوحي واستناروا به سلم لهم المنهج العلمي الصحيح في هذه العلوم، وعرفوا الحق فيها من الباطل، وحتى الذي يسمونه: علم القانون، فنحن عندنا الاجتهاد، وليس عندنا تشريع، إذ إن المشرع هو الله وحده، كذلك في علم السياسة يستطيع الإنسان إذا عرف الكتاب والسنة، ثم قرأ هذا العلم أن يهتدي إلى الحق فيه من الباطل، أو أي علم من هذه العلوم، لكن انظروا إلى مجرد اجتماع علماء يتناظرون، فتجدهم يتجادلون ويتخاصمون، ويرد بعضهم على بعض، ويسفه بعضهم رأي بعض، ولا يصلون إلى نهاية أبداً، مع أنه يوجد عشرات المدارس في علم الاجتماع، كم منهج في علم الاجتماع؟ كم مناهج في علم النفس؟ كثيرة جداً، وبعضها يكذب بعضاً، وبعضها يسفه بعضاً، فمن يحكم بين هؤلاء؟ وكيف نعرف الحق الذي عند هذا من الحق الذي عند هذا، والباطل الذي عند هذا من الباطل عند هذا؟ من لم يعرف ويتعلم إلا هذه العلوم فقط فإنه يتخبط أكثر، فلو أراد أن يعرف الحق، أو يحكم بهذه العلوم لخرج بمذهب جديد، وهذه عادتهم، فكل إنسان يتعلم أي علم من هذه العلوم ولديه عقل واجتهاد فالنتيجة أن يخرج برأي جديد ومذهب جديد، فلو جمعنا عباقرة الدنيا، وكان عددهم -مثلاً- عشرة آلاف، ودرسوا علم الاجتماع لخرجنا بعشرة آلاف نظرية في علم الاجتماع، والسبب أنه ليس هناك معايير محددة، إذ إن كل واحد يجتهد، لكن لو قلنا لهم: تعالوا تعلموا الكتاب والسنة، وانظروا ما فيهما في هذا الجانب، ثم اقرءوا هذا العلم، ثم احكموا، فنجد أننا لو طلبنا منهم كتابة بحوث لاستطعنا أن نخرج -مثلاً- بعشرة مذاهب، وليس هناك مشكلة لو أن عندنا عشرة آراء، أو أربعة مذاهب: حنفي وحنبلي وشافعي ومالكي، وإنما المشكلة هذا الاختلاف الذي لا يلتقي فيه اثنان، وعليه فالكتاب والسنة يهدي الله تبارك وتعالى بهما صاحب العقل؛ ليكون أقوم ما يكون، وليكون عقله نيراً متحرراً ناضجاً مهتدياً بإذن الله تبارك وتعالى، ولذلك سماه الله تبارك وتعالى نوراً فقال: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، أي: يتخبط في الظلمات، ولو مشى في الظلام ألف أو عشرة آلاف لأمكن أن يكون عندنا ألف أو عشرة آلاف طريق؛ لأنه تخبط في الظلام، أما في النور فحتى ولو كان في الطريق أربعة مسارات أو عشرة مسارات، فالطريق كله طريق واحد؛ لأنه مضيء، فكلهم يهتدون بهدي هذا النور، وهذا هو الفرق بين هؤلاء وأولئك.